نشاه طائفة الأدلاء

نشأة طائفة الأدلاء

بعد أن وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة مهاجرا من مكة تغير فيها كل شيء ، تغير اسمها من يثرب إلى المدينة ، وصارت عاصمة الدولة الإسلامية المتنامية ، يقصدها المسلمون من أرجاء العالم للصلاة في مسجدها ، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتلقي العلم والتدريس فيها.

وكان أهل المدينة يقدمون كل ما يملكون من مال وجهد لراحة هؤلاء الزائرين.

وخلال القرون المتلاحقة ، ازداد عدد الزائرين بشكل كبير فعمدت الحكومات المتعاقبة إلى تنظيم شؤونهم ، وتأمين الراحة لهم ، فشيدت الوكالات والأربطة لاستضافتهم ، كما أوكلت إلى أشخاص من أهل المدينة مشهود لهم بالورع والأمانة والصلاح ، جلهم من العلماء والوجهاء ، يقومون على خدمتهم وإرشادهم في زيارتهم للمسجد النبوي الشريف ، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وبقيع الغرقد حيث مثوى الآلاف من الصحابة رضي الله عنهم ، ومسجد قباء وشهداء أحد وغيرها من المعالم الشرعية والتاريخية.

واستمر الحال على ذلك قرونا عديدة نشأت خلالها بين زوار المسجد النبوي وأهل المدينة علاقات حميمة ، توقدت بفعل عوامل عديدة ساعدت على تنامي هذه العلاقات ، من أهمها الفترة التي كان يقضيها الزائر في المدينة المنورة ، في بيت الدليل مع أولاده وأهله يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون.

وكانت خدمة هؤلاء الزوار أمراً مشاعاً لكل من أراد الأجر والثواب ، ومع ازياد أعداد أهل المدينة ظهرت فيها عائلات اشتهرت بخدمة الحجاج والزوار، وكانت هذه العائلات تتمتع بسمعة طيبة ومعرفة بلغة الزوار الذين تقدم الخدمة لهم، وأغلب الظن أن ذلك حدث في عهد المماليك، في وقت متقارب مع ظهور مهنة الطوافة بمكة المكرمة.

وفي العهد التركي والهاشمي أخذت الأسر التي اشتهرت بهذه المهنة الشريفة صبغة رسمية ، ومنحت لها تقارير كلفت بموجبها كل أسرة بخدمة مقاطعة أو بلد أو جنسية معينة من الحجاج، وكان أكثر من يصدر هذه التقارير مشايخ الحرم النبوي الشريف وتعتبر هذه التقارير وثائق رسمية يتوارث بموجبها الأبناء من الآباء شرف هذه الخدمة.

وفي عام 1325 هـ ومع ازياد أعداد حاملي التقارير ظهرت مشيخة الأدلاء لمراقبة أعمالهم وتقويم سلوكياتهم، وكان شيخ الأدلاء يمارس هذه المهام بمعية هيئة أو مجلس منتخب من الأدلاء لا يزيد عن عشرة، يتمتعون بخبرات واسعة في خدمة الحجاج وشؤون الأدلاء ومعرفة الأسر.

وعندما دخلت هذه البلاد الطاهرة في كنف الدولة السعودية الحالية أصدر الملك عبد العزيز – رحمه الله – بلاغاً أقر فيه الأدلاء على عملهم ، ونشر البلاغ في جريدة أم القرى عام 1343 هـ ونصه:

( كل من كان في هذه الديار أو موظفي الحرم الشريف أو المطوفين ذات راتب معين فهو له ما كان  عليه من قبل إن لم نزده فلا ننقصه شيئا عدا رجل أقام الناس عليه الحجة أنه لا يصلح لما هو قائم عليه فذلك ممنوع مما كان له من قبل، وكل من كان له حق ثابت في مال المسلمين أعطيناه حقه ولم ننقصه شيئا).

وبدأت مرحلة صدور القوانين والمراسم التي تحدد وتؤطر قواعد المهنة وأداء المنتسبين لها، فصدر الأمر السامي الكريم بالموافقة على نظام هيئة الأدلاء بالمدينة المنورة برقم 54/1/145 وتاريخ 25/12/1356 هـ ،  وقد حدد هذا النظام ضوابط ممارسة الدليل لمهنته فنص على أن الدليل " هو صاحب تقرير سواء في ذلك صاحب التقرير نفسه أو أبناؤه "، والتقرير هو " الوثيقة التي تعطى للدليل كحجة تخوله مباشرة شؤون حجاج البلدان الممنوحة له"، كما حدد النظام الشروط المحددة لصحة التقرير ومن بينها أن يكون صادرا عن مشايخ الحرم النبوي الشريف، أو أمراء مكة المكرمة في زمن الحكومات السابقة، وما كان صادرا في عهد الحكومة السنية الحاضرة، ويشترط أن يكون موافقاً عليه من المقام السامي، وأن يكون مقيدا بسجلات الأدلاء المحفوظة بدائرة أوقاف المسجد الحرام.

وحدد النظام ضوابط السؤال عن الدليل والإرث والقسمة والتبعية والسلخ والهجرة والتوقيف، وأحكام عامة لتنظيم العلاقة بين المطوفين والأدلاء، وحل المنازعات بين الأدلاء.

وأقر النظام انتخاب هيئة الأدلاء من الأدلاء أنفسهم من عشرة أشخاص، بما فيهم الرئيس والنقيب ونائب الرئيس على أن ترتبط هيئة الأدلاء بحاكم المدينة المنورة.

وحدد ضوابط ممارسة مهنة الدليل، ومن بينها أن يكون متصفاً بالأخلاق الفاضلة والسيرة الحميدة ، وعليه أن لا يلحن في الزيارة والأدعية، وأن لا يرفع صوته عن المقدار المطلوب لسماع من خلفه من الحجاج، وأن يكون في حالة مرضية ليقتدي به الحجاج، وعليه المحافظة على ثروات الحجاج الذين يتوفون في المدينة المنورة ويجري فيها مقتضى نظامها المخصوص.